الأمن القومي والدفاع العسكريالأمن والدفاعالاستخباراتالتحالفات الدبلوماسية والاتفاقيات الدوليةالحركات المسلحةالسيادة والنزاعات الحدوديةالنزاعات الداخلية والإقليمية

حج مديري المخابرات الإفريقية إلى بورتسودان.. الحيثيات والتداعيات

مقدمة

شهدت الأسابيع الماضية زيارات عدد من مديري أجهزة المخابرات للعاصمة الإدارية المؤقتة للسودان بورسودان في توقيات متقاربة، وضمت الزيارات وفود كبيرة ذات ثقل أمني واستخباراتي ترأسها كل من مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين، ومدير جهاز المخابرات بأفريقيا الوسطى الفريق أول هنري وانزين، ورجح مراقبون أن تكون هذه الزيارات النوعية قد ناقشت عددا من الملفات المهمة، وتعد نقلة نوعية جديدة في علاقات السودان بكل من إثيوبيا وإفريقيا الوسطى.

السودان وإفريقيا الوسطى.. رسالة المخابرات

بدأت سلسلة الزيارات الأمنية والاستخبارية خلال الفترة الماضية لبورسودان بزيارة مدير جهاز المخابرات بأفريقيا الوسطى الفريق أول هنري وانزين، والذي حمل رسالة شفوية إلى رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، من رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، فوستين-أركانج تواديرا تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين وسبل دعمها وتطويرها، وتطرق اللقاء لمسار العلاقات الثنائية وسبل تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين، بجانب القضايا ذات الاهتمام المشترك، حيث تنشط الدبلوماسية السودانية خلال الأشهر الماضية بتركيز متزايد على إغلاق الثغرات الحدودية وتعزيز العلاقات الثنائية مع دول الجوار الإفريقي، بما يخدم مسار استعادة الدولة وهيبتها.

تقرأ زيارة مدير المخابرات في إفريقيا الوسطى أن هذا البلد بدأ يستشعر جدية الخرطوم في ترتيب ملفات الأمن الإقليمي وفق رؤية وطنية لا تسمح بأي تهديد يأتي من دول الجوار، وأن الرسالة الشفوية من رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى هي محاولة من بانغي لإعادة ضبط علاقتها مع السودان، بعد أن بات واضحاً أن الجيش السوداني يمسك بزمام المبادرة الميدانية والسياسية، وقد يكون تواديرا يسعى إلى تجنيب بلاده أية انعكاسات سلبية محتملة حال اتخذ السودان مواقف صارمة تجاه الدول المتورطة في دعم الميليشيا المتمردة. كما يحمل إرسال الرئيس تواديرا لمدير جهاز المخابرات، وليس غيره دلالة أمنية واضحة، أن بانغي تسعى إلى فتح قنوات تنسيق أمني مباشر، وربما تقديم تطمينات بشأن وقف أي دعم غير رسمي كانت توفره بعض المجموعات داخل إفريقيا الوسطى لميليشيا الدعم السريع، وتعكس اهتمام أفريقيا الوسطى بتأمين حدودها الشمالية وتعزيز التنسيق مع السودان، خاصة في ظل حالة السيولة الأمنية التي يشهدها الإقليم نتيجة للحرب في السودان.

كما يبدو واضحا سعي إفريقيا الوسطى لتعزيز التواصل الأمني مع السودان هو خطوة استباقية لمواجهة أي تداعيات محتملة، بالنظر إلى أن جمهورية أفريقيا الوسطى تواجه تحديات أمنية داخلية وتحركات لمجموعات مسلحة عابرة للحدود، حيث توقن دول جوار السودان بأهمية دعم استقرار السودان باعتباره عامل توازن إقليمي، لأن غياب الاستقرار في السودان لا يهدد فقط محيطه المباشر، بل يفتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية لمحاولة ملء الفراغ عبر شبكات مصالح معقدة، لا تخلو من امتدادات عابرة للقارات.

كما أبانت الزيارة الرغبة الواضحة من جانب القيادة في أفريقيا الوسطى لإعادة تموضعها السياسي بعد أن كانت خلال الفترة الماضية تُتهم بتوفير ممرات آمنة للمرتزقة والمسلحين الذين قاتلوا ضمن صفوف ميليشيا الدعم السريع، لا سيما في مناطق كردفان ودارفور، والرسالة التي حملها مدير المخابرات تأتي في إطار ما يمكن تسميته بدبلوماسية المراجعات من جانب بعض الأطراف الإقليمية التي ساندت، بشكل مباشر أو غير مباشر المتمردين، لكنها باتت تدرك اليوم أن المعادلة تغيرت، وأن الدولة السودانية بقيادة قواتها المسلحة استعادت زمام المبادرة في المعركة العسكرية والدبلوماسية، وأن أفريقيا الوسطى تسعى لتفادي الدخول في خانة العداء الرسمي مع السودان، وهي بذلك تحاول أن تفتح نافذة تواصل جديدة مع القيادة السودانية، على أمل طي صفحة الماضي.

السودان وإثيوبيا.. ماذا يحمل رضوان..؟

الزيارة الثانية هي زيارة مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين، والذي نقل كذلك رسالة من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان تناولت أهمية دعم السودان في جهوده الرامية لاستعادة السلام والاستقرار وسط التحديات الراهنة، وأكد حسين عقب اللقاء أن إثيوبيا ملتزمة التزاما راسخا بمساندة السودان في تجاوز أزماته، مشيرا إلى استعداد بلاده لتقاسم خبراتها وتجاربها في مجالات بناء السلام وإدارة التنوع، مما يعزز استقرار السودان ويحفظ وحدته الوطنية.

زيارة مدير المخابرات الإثيوبي ناقشت ملفات عدة مرتبطة بالدولتين والتطورات في القرن الأفريقي، حيث تعهد الطرفان بعدم السماح بأي أنشطة أو أعمال معادية من أي بلد تجاه الآخر، والتعاون لتعزيز الاستقرار على جانبي الحدود لتحقيق مصالح الشعبين، وذلك عبر التبادل التجاري وحرية حركة مواطني الدولتين، ومنع أي تحركات سالبة يمكن أن تؤثر على الأمن والتنسيق بشأن الأوضاع في القرن الأفريقي.

اللافت في زيارة مدير المخابرات الإثيوبي كان مرافقة مستشار رئيس الوزراء الإثيوبي للشؤون الأفريقية، غيتاشيو رضا، وهو الحاكم السابق لإقليم تيغراي، والذي تم تعيينه في المنصب الجديد، وتعد زيارة بورسودان هي أول زيارة خارجية له، في ظل تصاعد التوترات بين إثيوبيا وإريتريا، وتصريحاته الإيجابية بشأن إعادة عدد كبير من الإثيوبيين المخالفين لشروط الإقامة في السودان، والذي وجد ترحيبا من الجانب الإثيوبي، لأنه مرتبط بالأوضاع في إقليم تيغراي، حيث نص اتفاق بريتوريا على إعادة اللاجئين الذين ظلوا محل استقطاب من التيارات المتنافسة في الإقليم. وقد علق الإعلام الإثيوبي على زيارة مدير المخابرات الإثيوبي أنها تأتي في توقيت ومنطقة القرن الأفريقي تمر بتحديات كبيرة، مما يرجح أن الزيارة قد ناقشت دور السودان المتوقع في نزع فتيل التوتر بين البلدين الجارين خاصة في منطقة تيغراي، وتخفيف حدة التجاذبات التي وضعت علاقات البلدين على شفا الحرب.

يرى مراقبون أن مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين هو أرفع مسؤول إثيوبي يزور السودان منذ وصول آبي أحمد إلى بورتسودان قبل نحو عام، وبرغم أن أغلب تحركات المسؤولين الأمنيين ومديري المخابرات لا تكون معلنة، لكن زيارة حسين إلى بورتسودان اهتم بها الإعلام -خاصة الإثيوبي- على نطاق واسع، ونشر تأكيدات الموقف الإثيوبي التي نقلها إلى القيادة السودانية، وهو ما يعتبر رسالة إثيوبية للرأي العام الداخلي والخارجي، وأن إثيوبيا تستشعر خطرا على أمنها من تصاعد أزمتها مع إريتريا، وتحالف أسمرا مع تيار في إقليم تيغراي الإثيوبي يرفض اتفاق بريتوريا بين أديس أبابا والإقليم للسلام، كما أكدت زيارة مدير المخابرات الأثيوبي إلي بورتسودان المؤكد، وهو أن السودان يملك عدة أوراق مهمة ومؤثرة في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر علي وجه الدقة ، وأن السودان غير بعيد عن هذا الملف الحساس لتداخل حدود البلدين وصلات الخرطوم مع أطراف الأزمة وإريتريا.

كما رجح مراقبون أن الاتجاهات الإثيوبية الجديدة التي عبرت عنها زيارة حسين باتت تميل إلى دعم الموقف السوداني وحكومة كامل إدريس المرتقبة، حيث تخشى أديس أبابا من أن استمرار الحرب في السودان ونشوء كيان انفصالي يغذيان التيارات الانفصالية في إثيوبيا ويشجعانها، كما يبدو أن من مصلحة البلدين التوافق على تواصل إيجابي والتعاون الأمني والسياسي رغم أن ذلك قد يصطدم بنقاط حاكمة في مسار علاقاتهما، حيث تتحالف إثيوبيا مع قوى إقليمية عربية، في حين يتقارب السودان مع مصر وإثيوبيا، ويمكن تجاوز ذلك بمراعاة مصالح كل بلد مع ترك التقديرات الموضوعية للتحالفات حيث لا تتأثر بها العلاقات الرسمية.

اكتسب زيارة مدير جهاز المخابرات الإثيوبي رضوان حسين إلى بورتسودان أهمية استثنائية، ليس فقط لكونها جاءت بعد فترة طويلة من التوتر والصمت الدبلوماسي بين البلدين، بل لأنها مثّلت تحولًا لافتًا في لغة التواصل الإثيوبي تجاه السودان، من نهج التلويح إلى منطق التفاهم، ومن ظلال العداء إلى بصيص الشراكة الأمنية، والزيارة لم تكن مفاجئة في توقيتها فحسب، بل في طابعها العلني ورسائلها المركبة؛ فخلافاً للطابع السري التقليدي الذي يغلف تحركات مسؤولي المخبارات في الإقليم والعالم، قررت أديس أبابا تسليط الضوء عليها، مما يشي برغبة في توجيه خطاب سياسي متعدد المستويات.. داخلي يُطمئن الإثيوبيين أن الدولة ممسكة بزمام الأمن الإقليمي، وإقليمي يضع السودان مجددًا ضمن دوائر النفوذ الإثيوبي، ودولي يظهر إثيوبيا كفاعل عقلاني يسعى للتهدئة وليس التصعيد.

كما يبدو أن الملفات التي حملها مدير المخابرات الإثيوبي تتجاوز حدود التعاون الأمني، لأن إثيوبيا باتت تستشعر أن بقاء الوضع مفتوحًا في السودان سيمنح خصوم أديس أبابا الإقليميين – لا سيما إريتريا – فرصة للتلاعب بأوراق المعارضة وتغذية عدم الاستقرار عبر الحدود، ومن جانب السودان، تأتي هذه الزيارة في لحظة حرجة تمر بها البلاد بين سندان الحرب ومطرقة الضغوط الدولية، والدولة السودانية تعمل على إعادة تموضع إقليمي على ضوء سيطرتها المتوالية على المشهد الداخلي، وتبعث برسائل مفادها أن السودان ما يزال الشريك الأقوى في ترتيبات الأمن الجماعي في القرن الأفريقي. 

بجانب ما سبق فإن زيارة الوفد الإثيوبي للسودان قد تكون قد حملت مسار مساومة إيجابية بالمساعدة في إيقاف الحرب في السودان بمقابل مطلوبات مناظرة مثل تأمين الحدود وتجنب دخول الأثر السوداني في الداخل الإثيوبي، أصالة أو وكالة، لكن حسابات الواقع السياسي تجعل الفكرة مرتبطة بمحددات أساسية، منها أن شركاء الأمن القومي الإقليمي مصر وإريتريا هم جزء منها ولا يمكن تجاوزهما، وعلاقات السودان والإمارات وتأثير الحرب على هذه العلاقة، بجانب الأوضاع الداخلية في الدولة السودانية وغياب الرؤية الواضحة للعلاقات الخارجية عموما والإقليم والقرن الإفريقي خاصة، حيث يبدو أن مدير المخابرات قد قدم عرضًا لتأسيس أرضية مشتركة مع السودان في القضايا آنفة الذكر، واستئناف وساطة سابقة للحوار مع الإمارات.

خاتمة

زيارات قادة المخابرات في عدد من دول الجوار السوداني لبورتسودان، خاصة زيارة مدير المخابرات الإثيوبي لا يمكن فصلها عن المعركة الدائرة على النفوذ الإقليمي، وإثيوبيا تدرك أن الرهانات قصيرة المدى لا تصنع استقرارًا طويل الأمد، والمنطقة لا تحتمل مزيدًا من المغامرات، والأمن الحقيقي يبدأ من الاعتراف المتبادل بالمصالح في القرن الأفريقي، والسعي لخفض حدة الضغوط الإقليمية من دول جوار السودان، ولا سيما جنوب السودان، وكذلك أوغندا وكينيا وغيرها.

كما يبدو السياق الاقتصادي واضحا في هذه الزيارات، حيث من المؤكد أن أديس أبابا قدمت محفّزات واقعية للخرطوم للدخول في شراكات استثمارية وتجارية مهمّة، منها الربط الكهربائي بين البلدين ومساهمة إثيوبيا في سد فجوة الكهرباء في البلاد، بجانب استثمارات زراعية في الأراضي الحدودية بين البلدين، في سياق معالجة ملفات العلاقات الثنائية، وعلى رأسها النزاع على منطقة الفشقة، وإحياء مشروعات الاستثمار الزراعي في مساحات شاسعة من المنطقة الأخصب في السودان.

وبالنسبة لإفريقيا الوسطى تبدو بانغي راغبة في فتح قنوات تنسيق أمني واقتصادي مباشر، وأنها ستعمل مع السودان لقطع أي دعم يمكن أن توفره بعض المجموعات داخل إفريقيا الوسطى لميليشيا الدعم السريع، كما ستسعى بانغي للاستفادة من السودان اقتصاديا في توفير الكثير من الاحتياجات عبر المؤانيء السودانية على البحر الأحمر، وتنشيط تجارة الحدود، وتأمين حدود البلاد الشمالية وتعزيز التنسيق مع السودان، خاصة في ظل حالة السيولة الأمنية التي يشهدها الإقليم نتيجة للحرب في السودان.

مراجع

  • النور أحمد النور، ما وراء زيارة مدير المخابرات الإثيوبي للسودان، الجزيرة نت، 2/6/2025، الرابط:https://shorturl.at/OzmMw
  • تداعيات زيارة مدير المخابرات الإثيوبي للسودان وأبعادها الجيوسياسية، سودان تمورو، 3 يونيو 2025، الرابط:https://shorturl.at/8ptAm
  • محمد عبد الكريم أحمد، «تسلّل» إماراتي من بوابة إثيوبيا ، الأخبار اللبنانية، 4 يونيو2025، الرابط:https://shorturl.at/DoxSs

محمـــد جمال قنــــدول، مدير مخابراتها التقى البرهان ومفضل.. افريقيا الوسطى.. “اعادة ضبط المصنع”، 3/5/2025، صحيفة الكرامة السودا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى