هل يمثّل مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا مسار التنمية الأنسب للقارة؟

مقدمة
في أطراف قريةٍ هادئة بمحافظة “هويوما” غرب أوغندا، يُطلّ أحد المزارعين على أرضٍ ورثها أباً عنْ جدّ، لم تَعُدْ ملكًا له بعدَ أنْ دخلتها شركات المسح والتنقيب. وعلى الضفة الأخرى من المحيط، في تنغا التنزانية، يُبحر صياد ستينيّ بنبضٍ متوجّس، يخشى أن تتحوّل مياهه الهادئة، التي اعتاد أن ينسج منها قوته، إلى ممرّ لأنابيب النفط ومصبّ لتلوّثٍ زاحف لا يرى حدوده.
هذان مشهدان متباعدان جغرافيّاً؛ لكنهما يشتركان في سؤالٍ وجوديّ واحد، ألا وهو: هل ستمضي إفريقيا حقّاً على طريقٍ تنمويٍّ يُعبّر عن طموحات شعوبها، أم أنها تُساق نحو نموذج استثماريّ مأزوم، يُكرّس التبعية ويقايض المستقبل بالحاضر؟
إنّ مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا الذي يختصر بـ (EACOP) ليس مجرد مشروع بنية تحتية عابر للحدود؛ بل هو تجلٍّ لصراع مركّب بين تطلعات إفريقيا المشروعة إلى النمو الاقتصادي، وضرورات الالتزام البيئي والعدالة الاجتماعية في عالم يزداد تشككاً تجاه الوقود الأحفوري.
إنّ المشروع الذي يمتد على أكثر من 1400 كيلومتر بين أوغندا وتنزانيا، والمموَّل من تحالف شركات كبرى وحكومتين طموحتين، يُثير جدلاً واسعًا تتقاطع فيه العوامل الاقتصادية بالسياسية، والبيئية بالحقوقية، والمحلية بالإقليمية والدولية.
وبناء عليه، لا تهدف هذه الورقة إلى تبنّي موقف متشنجٍ، أو إصدار أحكام قطعية؛ بل تسعى إلى تقديم قراءة نقدية هادئة ومتّزنة تنبع من صوت إفريقيّ مستقلّ، يُعلي من قيم الاستدامة، والسيادة، والعدالة. وعلى هذا الأساس، سنعرض من خلالها روافد الجدال حول المشروع، بين من يراه بوابة نحو التحرر الاقتصادي وتحقيق التنمية، ومن يُحذّر من تداعياته البيئية والحقوقية بعيدة المدى.
كما سنتناول أثر المشروع على المجتمعات المحلية، وتحفظات الممولين الدوليين، وإشكاليات التوازن بين التنمية والبيئة، في محاولة الإجابة على التساؤل الجوهري: هل يُعَدّ مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا الطريق الأمثل لإفريقيا، أم أنه مجرّد قفزة في العتمة؟
ما هو مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا؟
يُعدّ مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا (East African Crude Oil Pipeline) أحد أكبر المبادرات البنيوية في تاريخ القارة، ويهدف إلى نقل النفط الخام المستخرج من حقول “بحيرة ألبرت” غربي أوغندا، وتحديدًا من منطقتي “تيلينغا” و”كينغفيشر”، إلى ميناء “تانغا” على الساحل التنزاني للمحيط الهندي. ويبلغ طول الخط قرابة 1433 كيلومترًا، ما يجعله أطول خط أنابيب مُسخّن كهربائيًا في العالم، وهو تصميم فرضته الطبيعة الشمعية للنفط الأوغندي الذي يتطلب الحفاظ على درجة حرارة ثابتة تبلغ حوالي 50 درجة مئوية؛ لضمان تدفّقه بكفاءة.[1]
يوُتوقع أنْ ينقل المشروع ما يصل إلى 216,000 برميل نفط يومياً، وتُقدّر تكلفته الإجمالية بأكثر من خمسة (5) مليارات دولار أمريكي.[2] حيث يموّل المشروع تحالف متعدد الجنسيات، تتقدّمه شركة توتال إنرجي الفرنسية (62%)، إلى جانب شركة النفط الوطنية الأوغندية (UNOC)، وشركة تنمية النفط التنزانية (TPDC)، وشركة النفط البحرية الوطنية الصينية (CNOOC) التي تمتلك حصة 8%.
وَوُقِّعتْ اتفاقيته الرسمية عام 2017م، في حين اتُّخِذ القرار الاستثماري النهائي عام 2022م، وتستمر أعمال البناء حاليًا، مع توقعات بتشغيله الكامل بحلول عام 2026م.[3]
وترى أوغندا وتنزانيا أنّ المشروع يمثل فرصة استراتيجية لتعزيز السيادة الطاقية، وتوفير عشرات آلاف الوظائف، وتنشيط البنية التحتية وتحقيق عوائد مالية كبرى. وقد قدّرت شركة EACOP أنّ المشروع سيولّد نحو 12,000 وظيفة مباشرة وغير مباشرة خلال مرحلة البناء، إلى جانب فرص تدريب ونقل تقني إقليمي.
غير أنّ المشروع يواجه موجة معارضة واسعة، سواء من منظمات بيئية وحقوقية دولية، أو من مؤسسات تمويلية كبرى. فقد رفضتْ أكثر من 20 مؤسسة بنكية وتأمينية عالمية المساهمة في تمويله، من بينها HSBCوBarclays، وCredit Agricole، وAXA، بسبب مخاوف تتعلق بالحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG)، وادعاءات تتعلق بتشريد السكان، والتأثير على الموارد المائية، وانتهاك اتفاقية باريس للمناخ.[4]
وفي ظلّ هذا الجدل، يتحول المشروع إلى ما هو أكثر من مجرد خط أنابيب؛ فإنه مرآة لصراع إفريقي داخلي بين الحق في استثمار الموارد لتحقيق النمو، والواجب الأخلاقي في حماية البيئة وضمان العدالة الاجتماعية في ظل واقع عالمي متحوّل بيئيًا وسياسيًا.
تسلسل مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا
بين وعود النمو وخطابات السيادة
يُعدّ مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا، الذي يربط بين حقول النفط في أوغندا وميناء تانغا في تنزانيا، محورًا حيويّاً في استراتيجية التنمية الوطنية لكل من أوغندا وتنزانيا. ويُتوقّع أن يُسهم المشروع في تعزيز الإيرادات الوطنية، وتوفير فرص عمل؛ حيث يُقدّر أنه سيوفر حوالي 15,000 وظيفة خلال مرحلة البناء، بالإضافة إلى 1,000 إلى 2,000 وظيفة دائمة بعد التشغيل.[5] وتؤكد الحكومتان الأوغندية والتنزانية على أهمية المشروع في تحقيق سيادة الطاقة، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
وفي هذا السياق، صرّحتْ وزيرة الطاقة الأوغندية، روث نانكابيروا، بأنّ المشروع يُعدّ خطوة استراتيجية نحو تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، مشيرة إلى أنّ “الأنابيب ليست مجرد بنية تحتية؛ بل هي شريان حياة لاقتصاداتنا.”[6]
وعلى الرغم من التحديات التي تواجه المشروع، بما في ذلك الانتقادات البيئية والحقوقية، ترى الحكومتان أنّ المشروع يُمثّل فرصا ليس للمنطقة فحسب؛ بل لإفريقيا لاستعادة سرديتها الاقتصادية، وتحديد مسارها التنموي بعيدًا عن الهيمنة الخارجية.كما يُعتبر المشروع اختباراً لقدرة الدول الإفريقية على تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والالتزامات البيئية والاجتماعية.
التحفظات البيئية والحقوقية: بين التحذير والمسؤولية
إنّ مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا قد أثار مخاوف بيئية وحقوقية واسعة النطاق، تتجاوز حدود أوغندا وتنزانيا؛ لتصل إلى المجتمع الدولي. فيما يلي ملخص لأبرز المخاوف المعلنة:
- المخاطر البيئية: يمر الخط عبر مناطق بيئية حساسة، بما في ذلك محميات طبيعية، وغابات ومناطق رطبة، مما يهدد التنوع البيولوجي والموائل الطبيعية.و تشير التقديرات إلى أنّ المشروع قد يؤدي إلى انبعاثات كربونية تصل إلى 34.3 مليون طن سنويّاً، وهو ما يفوق إجمالي انبعاثات أوغندا وتنزانيا مجتمعتين.[7]
- الانتهاكات الحقوقية: لقد أدّى المشروع إلى تهجير آلاف السكان، مع تقارير عن تعويضات غير كافية، ونقص في الشفافية خلال عمليات الاستملاك.و أفادت منظمة هيومن رايتس ووتش بأنّ المجتمعات المتأثرة تعاني من ضعف الوعي بحقوقها القانونية، مما يجعلها عرضة للاستغلال.[8]
- الرفض الدولي: هناك أكثر من 20 مؤسسة مالية، بما في ذلك HSBC، وBarclays، وCredit Suisse أعلنتْ عن رفضها تمويل المشروع بسبب مخاوف تتعلق بالحَوْكمة البيئية والاجتماعية.[9]
- أصوات محلية: كما عبّر نشطاء المناخ والمجتمع المدني في أوغندا وتنزانيا عن قلقهم العميق تجاه هذا المشروع. في هذا المضمار، تقول إيفلين أتشام، ناشطة من حركة “رايز أب”: “لا يمكننا شرب النفط”، في إشارة إلى التهديد الذي يشكله المشروع على مصادر المياه والحياة البيئية.
وفي ظل هذه التحديات، يُعدّ المشروع اختباراً لقدرة إفريقيا على تحقيق التنمية الاقتصادية دون المساس بالبيئة وحقوق الإنسان.
عدالة التوزيع: من يستفيد ومن يتحمّل الكلفة؟
في خضم الجدل المحتدم حول مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا، يظل السؤال المركزي الذي يفرض نفسهقائما: لمن تُنتَجُ هذه المشاريع؟ ومن يتحمّل كلفتها؟ فبين التصريحات الرسمية التي تَعِدُ بالنمو والتنمية، والتجارب اليومية التي يعيشها السكان في القرى المتأثرة، يتكشف واقع من اللامساواة في توزيع الفوائد والمخاطر.
ففي مناطق مثل كاجيرا في تنزانيا ونابولي في أوغندا، يمر المشروع بمحاذاة مجتمعات محلية لا تزال تعاني من نقص في الخدمات الأساسية، وتواجه تحدياتٍ في الوصول إلى المياه النقية والرعاية الصحية والتعليم. وفي ظل هذا الواقع، تثار تساؤلاتِ حول مدى وصول عائدات النفط إلى هذه الفئات، أو ما إذا كانت ستظل على هامش التنمية، بينما تُخصّص الموارد لأغراض مركزية أو لصالح شركاء المشروع من الخارج.
كما يثير المشروع قضايا تتعلق بـالعدالة البيئية بين الأجيال، إذْ تُقبِل القارة على بنية تحتية قائمة على الوقود الأحفوري في وقت تتجه فيه السياسات العالمية نحو الطاقة النظيفة. ويزداد هذا التناقض تعقيداً حين يُلاحظ أنّ إفريقيا، رغم إسهامها المحدود في الانبعاثات العالمية، يُطْلَب منها الالتزام الحادّ بالمعايير المناخية، في حين تستمر المؤسسات المالية والشركات الكبرى في تمويل مشاريع مشابهة في مناطق أخرى خارج القارة دون اعتراض مماثل.
وفي هذا السياق، يعكس المشروع حالة من التهميش الإفريقي في صناعة القرار المناخي العالمي، ويطرح تساؤلًا مشروعاً حول من يحدد الأولويات التنموية للقارة، وعلى أيّ أسس؟.
فبينما يُعدّ استغلال الموارد الطبيعية حقًا مشروعًا للدول، فإنّ صوغه ضمن استراتيجية تنموية تراعي مصالح الشعوب والبيئة هو ما يمنح هذا الحق مشروعيته الأخلاقية والتنموية في آنٍ واحد.
نحو تنمية تُنصف الإنسان والبيئة
لقد أظهر مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا أنّ الرهان على الموارد الطبيعية لا يكفي وحده لبناء مسار تنموي مستقر ومستدام. فبين طموحات الاستثمار والوعود بالعوائد، تظل التحديات البيئية والاجتماعية والحوكومية ماثلة؛ بل آخذة في التعقيد، خاصة مع اشتداد الضغوط المناخية وتغيّر الأولويات الدولية.
لذا، فإنّ المطلوب اليوم ليس إلغاء المشاريع؛ بل إعادة تصميمها وفق منطق العدالة والاستدامة والسيادة الوطنية. وفيما يلي مجموعة من التوصيات العملية، موجهة إلى الحكومات، وشركات الطاقة، وشركاء التمويل، ومؤسسات المجتمع المدني، من أجل تعزيز مسار تنموي أكثر توازنً:ا
- ضمان المشاركة المجتمعية واحترام الحقوق المحلية: يجب إشراك المجتمعات المتأثرة في كل مراحل المشروع من التخطيط إلى التنفيذ. هذا يتطلب مشاورات حقيقية، وآليات تظلم فعّالة، واحترام كامل لحقوق الحيازة التقليدية. فغياب ذلك يعمّق الشعور بالإقصاء، ويضعف شرعية المشاريع أمام الرأي العام.
- تعزيز الشفافية البيئية والحوكمة المؤسسية: ينبغي نشر العقود والتقارير البيئية والاجتماعية بصورة علنية وواضحة. فتوفير المعلومات يعزّز المساءلة، ويقلل من المخاطر السياسية والبيئية، ويسمح للمجتمع المدني بلعب دور رقابي بنّاء.
- توجيه الموارد نحو التنويع الاقتصادي والطاقة النظيفة: ينبغي استثمار جزء من عوائد النفط في بناء مستقبل ما بعد الطاقة الأحفورية. لا يكفي تأمين عوائد مالية؛ بل يجب توظيفها لبناء بنية تحتية مستدامة تشمل الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر، وغيرها.
- توسيع التمويل المناخي بشروط عادلة لإفريقيا: يجب أنْ يحظى التمويل المناخي بالمرونة والدعم الفني لتلبية أولويات الدول الإفريقية. إنّ إفريقيا لا تحتاج إلى وصفات جاهزة؛ بل إلى شراكات عادلة تراعي تفاوت القدرات والسياقات المحلية.
- إعادة صياغة التعاون الإقليمي ليكون أوسع من الاستخراج: ينبغي أنْ يشمل التكامل الإقليمي مجالات التصنيع، والابتكار، وسلاسل القيمة. فالتركيز على تصدير المواد الخام فقط يُعيد إنتاج التبعية. أما التكامل الذكيّ فيُمهّد لنمو قائم على المعرفة والسيادة الاقتصادية.
إنّ بناء تنمية عادلة لا يتوقف على وفرة الموارد؛ بل على كيفية إدارتها بأفق طويل المدى، يحترم الإنسان والبيئة، ويعزّز الثقة المجتمعية. وما طُرح من توصيات ليس بديلًا عن التنمية؛ بل مدخلًا لإصلاح مسارها بما يخدم الحاضر ويؤسس لمستقبل أكثر توازنًا وسيادة.
الخلاصة
لا شك أنّ لأفريقيا الحق الكامل في اختيار مسارها التنموي، انطلاقًا من خصوصيتها ومواردها وتطلعات شعوبها. غير أنّ هذا الحق لا يكتمل إلا حين يُمارَس بقدر من الحكمة والمسؤولية، ووفق خيارات تستند إلى المعرفة، لا إلى الإملاء، وإلى العدالة، لا إلى المكاسب الظرفية.
إنّ النقاش حول مشروع خط أنابيب النفط الخام لشرق إفريقيا يجب ألا يُختزل في معادلة “مع أو ضد“؛ بل يُعاد بناؤه على أرضية إفريقية خالصة، تُنصِت للأصوات المحلية، وتُعيد تعريف الأولويات وفق المصلحة العامة طويلة الأجل.
لقد آن الأوان لأنْ نُعيد طرح السؤال بصيغة صريحة، مثل: هل هذا هو نموذج التنمية الذي نريده لأنفسنا، أم ذلك الذي يُعرض علينا بعبارات منمقة وأثمان مؤجلة؟
الجواب، في نهاية المطاف، لا يُملى على دول القارة… بل تكتبه هي.
[1] TotalEnergies. (2023). Tilenga and EACOP Projects: Acting Transparently. Retrieved from totalenergies.com
[2] https://www.eacop.com/?playlist=41eeb0da&video=d7cd19d
[3] https://www.reuters.com/business/energy/ugandas-5-billion-eacop-pipeline-gets-funding-boost-2025-03-26/
[4] https://www.banktrack.org/article/the_stopeacop_coalition_condemns_the_partial_financing_of_the_east_african_crude_oil_pipeline
[5] https://www.ft.com/content/061f0636-c868-4c8e-93f1-89a9e0a8f486?utm_source=chatgpt.com
[6] https://en.wikipedia.org/wiki/East_African_Crude_Oil_Pipeline?utm_source=chatgpt.com
[7] https://www.amisdelaterre.org/wp-content/uploads/2022/10/eacop-a-disaster-in-the-making-foe-france-and-survie-oct-2022.pdf?utm_source=chatgpt.com
[8] https://www.eacop.com/wp-content/uploads/2022/09/HRIA.pdf?utm_source=chatgpt.com
[9] https://www.business-humanrights.org/en/latest-news/tanzania-uganda-fifteen-banks-have-ruled-out-financing-the-east-african-crude-oil-pipeline-but-several-major-lenders-remain-silent/?utm_source=chatgpt.com